الأحد، 15 نوفمبر 2015

قارون (الثري الإسرائيلي البخيل) ((قصص قرآنية))

قارون (الثري الإسرائيلي البخيل)
((قصص قرآنية))

وقع الكلام على مواجهة بني إسرائيل مع رجل ثري منهم يدعى (قارون). قارون هذا كان مظهراً للثراء المقرون بالكبر والغرور والطغيان.

وأساساً، فإن موسى عليه السلام واجه في طول حياته ثلاث قوى استكبارية طاغوتية: 
1- (فرعون) الذي كان مظهراً للقوة (والقدرة في الحكومة).
2- (قارون) الذي كان مظهراً للثروة والمال!
3- (السامري) الذي كان مظهراً للنفاق والصناعة.

وبالرغم من أهم مواجهات موسى عليه السلام هي مواجهته لفرعون و(حكومته) إلا أنّ مواجهتيه الأخيرتين لهما أهمية كبيرة أيضاً، وفيهما دروس ذات عبر ومحتوى كبير!.

المعروف أن (قارون) كان من أرحام موسى وأقاربه (ابن عمه أو ابن خالته) وكان عارفاً بالتوراة، وكان في بداية أمره مع المؤمنين، إلا أن غرور الثروة جره إلى الكفر ودعاه إلى أن يقف بوجه موسى عليه السلام وأماته ميتة ذات عبرة للجميع. 

يقول القرآن في شأنه أولاً: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ﴾ وسبب بغيه وظلمه إنه كان ذا ثروة عظيمة، ولأنه لم يكن يتمتع بإيمان قوي وشخصية متينة فقد غرته هذه الثروة الكبيرة وجرته إلى الانحراف والاستكبار. يصف القرآن ما عنده من ثروة فيقول: ﴿وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ﴾1. إن قارون كان ذا مال كثير ووفير من الذهب والفضة، بحيث كان يصعب حمل صناديقها على الرجال الأشداء.

أربع عظات

يقول القرآن في هذا الصدد: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾. ثم يقدمون له أربع نصائح قيمة أخرى ذات تأثير مهم على مصير الإنسان، بحيث تتكامل لديه حلقة خماسية من النصائح مع ما تقدم من قولهم له: ﴿لَا تَفْرَحْ﴾.

فالنصيحة الأولى
قولهم له: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾ وهذا إشارة إلى أن المال والثروة ليس أمراً سيئاً كما يتصوره بعض المتوهمين، المهم أن تعرف فيم يستعمل المال، وفي أي طريق ينفق، فإذا ابتغي به الدار الآخرة فما أحسنه! أو كان وسيلة للعب والهوى والظلم والتجاوز، فلا شي أسوأ منه!

والنصيحة الثانية 
قولهم له: ﴿وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَ﴾ والقرآن يشير إلى مسألة واقعية، وهي أن لكل فرد منا نصيباً من الدنيا، فالأموال التي يصرفها على بدنه وثيابه ليظهر بمظهر لائق هي أموال محدودة، وما زاد عليها لا تزيد مظهره شيئاً، وعلى الإنسان أن لا ينسى هذه الحقيقة!...

والنصيحة الثالثة 
هي ﴿وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾. وهذه حقيقة أخرى، وهي أن الإنسان يرجو دائما نعم الله وإحسانه وخيره ولطفه، وينتظر منه كل شيء. فبمثل هذه الحال كيف يمكن له التغاضي عن طلب الآخرين الصريح أو لسان حالهم.. وكيف لا يلتفت إليهم!.

والنصيحة الرابعة 
والأخيرة أن لا ترنك هذه الأموال والإمكانات المادية فتجرك إلى الفساد. ﴿وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾2. وليس من المعلوم بدقة من هم الناصحون لقارون يومئذٍ ولكن القدر المسلم به أنهم رجال علماء متقون، أذكياء، ذوو نجدة وشهامة، عارفون للمسائل الدقيقة الغامضة!.

جواب قارون

والآن لنلاحظ ما كان جواب هذا الإنسان الباغي والظالم الإسرائيلي لجماعته الواعظين له!. فأجابهم قارون بتلك الحالة من الغرور والتكبر الناشئة من ثروته الكبيرة، و﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾3. هذا لا يتعلق بكم، وليس لكم حق أن ترشدوني إلى كيفية التصرف بمالي، فقد أوجدته بعلمي وإطلاعي. ثم إن الله يعرف حالي ويعلم أني جدير بهذا المال الذي أعطانيه، وعلمني كيف أتصرف به، فلا حاجة إلى تدخلكم!. وبعد هذا كله فقد تعبت وبذلت جهوداً كبيرة في سبيل جمع هذا المال، فإذا كان الآخرون جديرين بالمال، فلم لا يتعبون ويجهدون أنفسهم؟ فلست مضايقاً لهم، وإذا لم يكونوا جديرين، فليجوعوا وليموتوا فهو أفضل لهم.

هذا المنطق العفن المفضوح طالما يردده الأثرياء الذين لاحظ لهم من الإيمان أمام من ينصحهم.

وهذه اللطيفة جديرة بالالتفات وهي أن القرآن لم يصرح بالعلم الذي كان عند قارون وأبقاه مبهماً، ولم يذكر أي علم كان عند قارون حتى استطاع بسببه على هذه الثروة الطائلة!.

أهو علم الكيمياء. أم هو علم التجارة والصناعة والزراعة. أم علم الإدارة الخاص به، الذي استطاع أن يجمع هذه الثروة العظيمة. أم جميع هذه العلوم!

لا يبعد أن يكون مفهوم كلامه سبحانه واسعاً وشاملاً لجميع هذه العلوم (بالطبع بصرف النظر عن أن علم الكيمياء علم يستطاع بواسطته قلب النحاس وأمثاله ذهبا وهل هو خرافة أم حقيقة واقعية)؟

وهنا يجيب القرآن على قول قارون وأمثاله من المتكبرين الضالين، فيقول: ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعً﴾.

أتقول: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾4 ونسيت من كان أكثر منك علماً وأشد قوة وأثرى مالاً، فهل استطاعوا أن يفروا من قبضة العذاب الإلهي؟!

جنون الثروة

المعروف أن أصحاب الثروة يبتلون بأنواع الجنون... وواحد منها (جنون عرض الثروة وإظهارها) فهؤلاء يشعرون باللذة عندما يعرضون ثروتهم على الآخرين، وحين يعبرون على مركب غال وثير ويمرّون بين حفاة الأقدام فيتصاعد الغبار والأتربة لينتشر على وجوههم، ويحقرونهم بذلك، فحينئذٍ يشعرون بالراحة النفسية والنشوة تدغدغ قلوبهم..

وبالرغم من أن عرض الثروة هذا غالباً ما يكون سبباً للبلاء عليهم، لأنه يربي الأحقاد في الصدور ويعبئ الحساسيات ضده، وكثيراً ما ينهي هذا العمل الرديء حياة الإنسان، أو يزيل ثروته مع الريح!.

ولعل هذا الجنون يحمل هدفاً من قبيل إغراء الطامعين وتسليم الأفراد المعاندين ولكن الأثرياء غالباً ما يقومون بهذا العمل دون هدف، لأنه نوع من الهوى والهوى وليس خطه أو برنامجاً معيناً.

وعلى كل حال فإن قارون لم يكن مستثنى من هذا القانون، بل كان يعد مثلاً بارزاً له، والقرآن يتحدث عنه في جملة موجزة فيقول: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ﴾5. أمام قومه من بني إسرائيل. فإنه أظهر جميع قدرته وقوته ليبدي ما لديه من زينة وثروة. ومعلوم طبعاً إن رجلاً بهذه المثابة من الثروة ماذا يستطيع أن يفعل!؟

وينقل في التاريخ في هذا الصدد قصص كثيرة مقرونة بالأساطير أحياناً، فإن بعضهم يكتب أن قارون خرج في استعراض كبير، وقد أركب أربعة آلاف نفر على أربعة آلاف فرس حمر (غالية القيمة) مغطاة بالقماش الفاخر، وقد ملأها زينة من الذهب والجواهر الأخرى، فمر بهذا الاستعراض على بني إسرائيل.. وقد أثار هذا المنظر الناس، إذا رأوا أربعة آلاف من الخدم ابيض يلبسون ثياباً حمراً مع زينتهم.

وقال بعضهم: بل بلغ عدد هؤلاء (الخدم والحشم) سبعة آلاف نفر، وذكروا أخباراً أخرى في هذا الصدد.

ولو فرضنا أن كل ذلك مبالغ فيه، إلا أنه لا يمكن إنكار هذه الحقيقة، وهي أن قارون لديه ثروات مهمة أظهرها في زينته!

ياليت لنا مثل ما أوتي قارون

هنا أصبح الناس طائفتين بحسب العادة فطائفة وهم الأكثرية من عبدة الدنيا أثارهم هذا المشهد، فاهتزت قلوبهم وتأوهوا بالحسرات وتمنوا لو كانوا مكان قارون ولو يوماً واحداً ولو ساعة واحدة وحتى ولو لحظة! واحدة...

فأيّة حياة عذبة جميلة هذه الحياة التي تهب اللذات والنشاط... ﴿قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾.

هنيئاً لقارون ولثروته العظيمة!.. وما أعظم جلاله وعزته.. ولا نظن في التاريخ أحداً أعطاه الله ما أعطى قارون.

لكن أمام هذه الطائفة التي ذكرناها آنفاً طائفة أخرى من العلماء والمتقين الورعين، سمت آفاقهم عن مثل هذه المسائل، وكانوا حاضرين حينئذٍ و (المشهد) يمر من أمامهم. 

هؤلاء الرجال لا يقومون الشخصية بالذهب والقوة، ولا يبحثون عن القيم في الأمور المادية. لا تبهرهم هذه المخاطر، بل يسخرون منها ويبتسمون تبسم استهزاء وازدراء! ويحقرون هذه الرؤوس الفارغة.

فهؤلاء كانوا هناك، وكان لهم موقف آخر من قارون، وكما يعتبر عنهم القرآن ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ ثم أردفوا مؤكدين ﴿وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾6.

قارون والزكاة

لقد أوصل قارون بعمله هذا طغيانه وعناده إلى الدرجة القصوى، غير أن ما ورد في التواريخ حكاية منقولة عن قارون تدل على منتهى الخسة وعدم الحياء! ننقلها هنا.

قال له موسى عليه السلام يوما إن الله أمرني أن آخذ الزكاة فأبى فقال: إن موسى يريد أن يأكل أموالكم جاءكم بالصلاة وجاءكم بأشياء فاحتملتموها فتحملوه أن تعطوه أموالكم؟ قالوا: لا نحتمل فما ترى؟ فقال لهم: أرى أن أرسل إلى بغي من بغايا بني إسرائيل فنرسلها إليه فترميه بأنه أرادها على نفسها فأرسلوا إليها فقالوا لها: نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى أنه فجر بك قالت نعم. فجاء قارون إلى موسى عليه السلام قال: اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربك قال: نعم، فجمعهم فقالوا له: بم أمرك ربك؟ قال: أمرني أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وأن تصلوا الرحم وكذا وكذا وقد أمرني في الزاني إذا زنى وقد أحصن أن يرجم. قالوا: وإن كنت أنت؟ قال: نعم. قالوا: فإنك قد زنيت، قال: أنا؟

فأرسلوا إلى المرأة فجاءت فقالوا: ما تشهدين على موسى؟ فقال لها موسى عليه السلام أنشدتك بالله إلا ما صدقت. قالت: أما إذا نشدتني فإنهم دعوني وجعلوا فإنهم دعوني وجعلوا لي جعلاً على أن أقذفك بنفسي وأنا أشهد أنك بريء وأنك رسول الله. فخر موسى عليه السلام ساجدا يبكي فأوحى الله إليه: ما يبكيك؟ قد سلطانك على الأرض فمرها فتطيعك، فرفع رأسه فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أعقابهم.

العذاب الإلهي

يقول القرآن الكريم في هذا الصدد ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾.

أجل حين يبلغ الطغيان والغرور وتحقير المؤمنين الأبرياء والمؤامرة ضد نبي الله أوجها، تتجلى قدرة الله تعالى وتطوي حياة الطغاة... وتدمرهم تدميراً يكون عبرة للآخرين.

مسألة (الخسف) هنا التي تعني انشقاق الأرض وابتلاع ما عليها، حدثت على مدى التاريخ عدة مرات.. إذ تتزلزل الأرض ثم تنشق وتبتلع مدينة كاملة أو عمارات سكنية داخلها، لكن هذا الخسف الذي حدث لقارون يختلف عن تلك الموارد.. هذا الخسف كان طعمته قارون وخزائنه فحسب!.

يا للعجب!.. ففرعون يهوي في ماء النيل!.. وقارون في أعماق الأرض!. الماء الذي هو سر الحياة وأساسها يكون مأموراً بهلاك فرعون.

والأرض التي هي مهاد الاطمئنان والدعة تنقلب قبراً لقارون وأتباعه! ومن البديهي أن قارون لم يكن لوحده في ذلك البيت فقد كان معه أعوانه وندماءه ومن أعانه على ظلمه وطغيانه، وهكذا توغلوا في أعماق الأرض جميعاً.

﴿فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ﴾7... فلم يخلصه أصدقاؤه، ولا اللذين كانوا يحملون أمتعته ولا أمواله ولا أي أحد من عذاب الله، ومضى قارون وأمواله ومن معه في قعر الأرض!

لولا أن منّ الله علينا لخسف بنا

القرآن الكريم يحكي عن التبدل العجيب لأولئك الذين كانوا يتفرجون على استعراض قارون بالأمس ويقولون: يا ليت لنا مثل ما أوتي لقارون، وما شابه ذلك!. وإذا هم اليوم يقولون: واهاً له، فإن الرزق بيد الله ﴿وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ﴾.

لقد ثبت عندنا اليوم أن ليس لأحد شيء من عنده! فكل ما هو موجود فمن الله، فلا عطاؤه دليل على رضاه عن العبد، ولا منعه دليل على تفاهة عبده عنده!. فالله تعالى يمتحن بهذه الأموال والثروة عباداً أفراداً وأقواماً، ويكشف سريرتهم ونياتهم. ثم أخذوا يفكرون في ما لو أجيب دعاؤهم الذي كانوا يصرون عليه، وأعطاهم الله هذا المال، ثم هووا كما هوى قارون، فماذا يكون قد نفعهم المال؟ لذلك شكروا الله على هذه النعمة وقالوا:﴿لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾8 

فالآن نرى الحقيقة بأعيننا، وعاقبة الغرور والغفلة ونهاية الكفر والشهوة!. ونعرف أن أمثال هذه الحياة المثيرة للقلوب بمظاهرها الخداعة، ما أوحشها! وما أسوأ عاقبتها!.

ويتضح من الجملة الأخيرة في هذه القصة – صمناً – أن قارون المغرور مات كافراً غير مؤمن، بالرغم من أنه كان يعد عارفاً بالتوراة قارئاً لها، وعالماً من بني إسرائيل ومن أقارب موسى.

1- القصص، 76.
2- القصص، 76 – 77.
3- القصص، 78.
4- القصص، 78.
5- القصص، 79.
6- القصص، 79 - 80.
7- القصص، 81.
8- القصص، 82.

قصة بقرة بني إسرائيل ((قصص قرآنية))

قصة بقرة بني إسرائيل
((قصص قرآنية))

قتل شخص من بني إسرائيل بشكل غامض ولم يعرف القاتل. تذكر كتب التاريخ والتفسير أن دافع القتل في هذه الحادثة إما المال أو الزّواج.

منهم من قال إن ثريًا من بني إسرائيل لم يكن له وارث سوى ابن عمه، فطال عمر هذا الثري ولم يطق الوارث مزيدًا من الانتظار، فقتله خفيه ليحصل على أمواله، وألقى جسده في الطريق،ثم بدأ بالصراخ والعويل، وشكا الأمر إلى موسى. وقال آخرون: إن القاتل أراد أن يتزوج من ابنه القتيل فرفض ذلك وزوّج ابنته إلى أحد أخيار بني إسرائيل فقعد له وقتله.

على أّيه حال حدث بين قبائل بني إسرائيل نزاع بشأن هذه الحادثة، كل قبيلة تتهم الأخرى بالقتل. توجهوا إلى موسى ليقضي بينهم فما كانت الأساليب الإعتيادية ممكنه في هذا القضاء وما كان بالإمكان إهمال هذا المسألة لما سيترتب عليها من فتنه بين بني إسرائيل. لجأ موسى بأذن الله إلى طريقة إعجازية لحل هذه المسألة.

يقول سبحانه: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً...﴾ وأن تضربوا قطعه منها بالمقتول كي يحي ويخبركم بقاتله ﴿...قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا...﴾، ﴿...قال أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ أي إن الاستهزاء من عمل الجاهليين، وأنبياء الله مبرءون من ذلك.

إشكالات بني إسرائيل:

بعد أن أيقنوا جديّة المسألة ﴿قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ...﴾ موسى عليه السلام أجابهم ﴿...قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ...﴾ أي إنها لا كبيره هرمه ولا صغيرة بل متوسطة بين الحالتين ﴿...فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ﴾.

لكن بني إسرائيل لم يكفوا عن لجاجتهم: ﴿قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا..﴾ أجاب موسى: ﴿...يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ﴾ أي إنها لا كبيرة هرمة ولا صغيرة، بل متوسطة بين الحالتين: ﴿فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ﴾.

لكن بني إسرائيل لم يكفوا عن لجاجتهم: ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَ﴾ أجابهم موسى: ﴿قَالَ إِنَّهُ يَقوُلُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِع لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ﴾ أي إنها حسنة الصفرة لا يشوبها لون آخر.

ولم يكتفوا بني إسرائيل بهذا بل أصروا على لجاجتهم، وضيقوّا دائرة انتخاب القرة على أنفسهم، عادوا و﴿قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ...﴾ طالبين بذلك مزيدًا من التوضيح،متذرعين بالقول: ﴿...إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ﴾.

أجابهم موسى ﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ...﴾ أي ليست من النوع المذلل لحرث الأرض وسقيها، ﴿مُسَلَّمَةٌ﴾ من العيوب كلها، ﴿لاَّ شِيَةَ فِيهَ﴾ أي لا لون فيها من غيرها، حينئذ: ﴿الُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ﴾، ﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ﴾ أي أن وجدوا بقره بهذه السمات ذبحوها بالرغم من عدم رغبتهم بذلك.

﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا...﴾ أي اضربوا قطعه منها بالمقتول كي يحيي ويخبركم بقاتله أخذوا بني إسرائيل يبحثون عن بقره بتلك الخصائص فذبحوها وألقوا دمها على القتيل فحيي وذكر أن القاتل كان أبن عمّه.

الإحسان إلى الأب

إن البقرة كانت وحيده لا تشاركها بقره أُخرى في المواصفات المذكورة ولذلك اضطر القوم إلى شرائها بثمن باهظ.

ويقولون: إن هذه البقرة كانت ملكًا لشاب صالح على غاية البّر بوالده،هذا الرجل و أتته سابقًا فرصة صفقه مربحه،كان عليه أن يدفع فيها الثمن نقدًا،وكانت النقود في صندوق مغلق مفتاحه تحت وساده والده. حين جاء الرجل ليأخذ المفتاح وجد والده نائمًا فأبى أن يوقظه ويزعجه ففضل أن يترك ألصفقه على أن يوقظ والده.

وقال بعض المفسرين: كان البائع على استعداد لأن يبيع بضاعته بسبعين الفًا نقدًا ولكن الرجل أبى أن يوقظ والده واقترح شراء تلك البضاعة بثمانين الفًا على أن يدفع المبلغ بعد استيقاظ والده. وأخيرا لم تتم صفقه المعاملة ولذا أراد الله تعالى تعويضه على ايثار هذا بمعامله أخرى وفيرة الربح.

وقالوا أيضا: بعد أن استيقظ الوالد وعلمه بالأمر، أهدى لولده البقرة المذكورة، فدّرت عليه ربحًا عظيمًا.

* قصص القرآن / لآية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي

قصة أصحاب الكهف ((قصص قرآنية))

قصة أصحاب الكهف
((قصص قرآنية))

إنَّ مجموعةً من الفتية الأذكياء المؤمنين كانوا يعيشون في ظلِّ حياةٍ مترفةٍ بالزِّينة وأنواع النِّعم، إلا أنَّهم انسلخوا من كلِّ ذلك لأجل حفظ عقيدتهم وللصِّراع ضدَّ الطَّاغوت، طاغوت زمانهم، وذهبوا إلى غارٍ خالٍ من جميع أشكال الزِّينة والنِّعَم، وقد أثبتوا بهذا المسلك أمر استقامتهم في سبيل الإيمان والثبات عليه.

الملفت للنَّظر أنَّ القرآن ذكر في البداية قصَّة هذه المجموعة من الفتية بشكلٍ مجمل، موظِّفًا بذلك أحد أصول فنّ الفصاحة والبلاغة، وذلك لتهيئة أذهان المستمعين، ثمَّ بعد ذلك ذكر التَّفاصيل.

مجمل قصَّة أصحاب الكهف:

في البداية يقول تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبً﴾. إنَّ لنا آياتٍ أكثر عجبًا في السَّماوات والأرض، وإنَّ لكُلِّ واحد منها نموذج لعظمة الخالق جلَّ وعلا، وفي حياتكم –أيضًا- أسرارًا عجيبة تعتبر كلّ واحدة منها علامة على صدق دعوتك، وفي كتابك السَّماويّ الكبير هذه آيات عجيبة كثيرة، وبالطَّبع فإنَّ قصَّة أصحاب الكهف ليست بأعجب منها.

أمَّا لماذا سمِّيت هذه المجموعة بأصحاب الكهف؟ فذلك يعود إلى لجوئهم إلى الغار كي ينقذوا أنفسهم، كما سيأتي ذلك لاحقًا إن شاء الله.

أمَّا "الرقيم" ففي الأصل مأخوذة من (رَقَمَ) وتعني الكتابة، وحسب اعتقاد أغلب المفسِّرين فإنَّ هذا هو اسم ثانٍ لأصحاب الكهف، لأنَّه في النِّهاية تمَّت كتابة أسمائهم على لوحة وضعت على باب الغار. البعض يرى أنَّ "الرقيم" اسم الجبل الذي كان فيه الغار.

والبعض الآخر اعتبر ذلك اسما للمنطقة التي كان الجبل يقع فيه أمَّ بعضهم فقد اعتبر ذلك اسمًا للمدينة التي خرج منها أصحاب الكهف، إلاّ أنَّ المعنى الأوَّل أكثر صحَّةً كما يظهر.

ثمَّ يقول سبحانه بعد ذلك: ﴿إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ...﴾ وعندما انقطعوا عن كلّ أمل توجَّهوا نحو خالقهم: ﴿...فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً...﴾ ثمَّ: ﴿...وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدً﴾ أي أرشدنا إلى طريق ينقذنا من هذا الضيق ويقرِّبنا من مرضاتك وسعادتك، الطَّريق الذي فيه الخير والسَّعادة وإطاعة أوامر الله تعالى. وقد استجيبت دعوتهم: ﴿فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا*ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدً﴾.

القصَّة المفصَّلة لأصحاب الكهف:

بعد أن ذكر القرآن بشكلٍ مختصر قصَّة أصحاب الكهف، بدأ الآن مرحلة الشرح المفصَّل لها وكان المنطلق في ذلك قوله تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ...﴾ كلام خالٍ من أيّ شكل من أشكال الخرافة والتَّزوير. ﴿...إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾.

ويشير القرآن –وما هو ثابت في التَّأريخ- إلى أنَّ أصحاب الكهف كانوا يعيشون في بيئةٍ فاسدة وزمان شاعت فيه عبادة الأصنام والكفر، وكانت هناك حكومة ظالمة تحتمي مظاهر الشرك والكفر والانحراف.

مجموعة أهل الكهف-الذين كانوا على مستوى من العقل والصِّدق- أحسُّوا بالفساد وقرَّروا القيام ضدَّ هذا المجتمع، وفي حال عدم تمكُّنهم من المواجهة والتغيير فإنَّهم سيهجرون هذا المجتمع والمحيط الفاسد.

لذا يقول القرآن بعد البحث السَّابق: ﴿وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا...﴾.

فإذا عبدنا غيره: ﴿لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطً﴾.

وفي الواقع، إنَّ هؤلاء الفتية المؤمنين ذكروا دليلا واضحا لإثبات التَّوحيد ونفي الآلهة. وهو قولهم: إنَّنا نرى وبوضوح أنَّ لهذه السماوات والأرض خالقًا واحدًا، وأنَّ نظام الخلق دليل على وجوده، وما نحن إلا جزء من هذا الوجود، لذا فإنَّ ربَّنا هو نفسه ربُّ السماوات والأرض.

ثمَّ ذكروا دليلاً آخر وهو: ﴿هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً...﴾.

فهل يمكن الاعتقاد بشيء بدون دليل وبرهان:﴿...لولا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ...﴾.

وهل يمكن أن يكون الظنّ أو التَّقليد الأعمى دليلاً على مثل هذا الاعتقاد؟ هؤلاء الفتية الموحِّدون قاموا بما يستطيعون لإزالة صدأ الشرك عن قلوب النَّاس، وزرع غرسة التَّوحيد في مكانها، إلا أنّ ضجَّة عبادة الأصنام في ذلك المحيط الفاسد، وظلم الحاكم الجبَّار كانتا من الشِّدة بحيث حبستا أنفاس عبادة الله في صدورهم وانكمشت همهمات التوحيد في حناجرهم.

وهكذا اضطروا للهجرة لإنقاذ أنفسهم والحصول على محيط أكثر استعدادًا وقد تشاوروا فيما بينهم عن المكان الذي سيذهبون إليه ثمَّ كان قرارهم: ﴿...فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقً﴾.

ملجأ باسم الغار:

(الكهف) كلمة ذات مفهوم واسع، وتذكرنا بنمط الحياة الابتدائية للإنسان، حيث ينعدم فيه الضوء، ولياليه مظلمة وباردة، وتذكرنا بآلام المحرومين، إذ ليس ثمة شيء من زينة الحياة المادية، أو الحياة الناعمة المرفَّهة.

ويتَّضح الأمر أكثر إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أنَّ التأريخ ينقل لنا أنَّ أصحاب الكهف كانوا من الوزراء وأصحاب المناصب الكبيرة داخل الحكم. وقد نهضوا ضدَّ الحاكم وضدَّ مذهبه، وكان اختيار حياة الكهوف على هذه الحياة قراراً يحتاج إلى المزيد من الشهامة والهمّة والروح والإيمان العالي.

وفي هذا الغار البارد المظلم الذي قد يتضّمن خطر الحيوانات المؤذية، هناك عالم من النور والإخلاص والتوحيد والمعاني السامية.

إنَّ خطوط الرحمة الإلهية متجلية على جدران هذا الغار، وأمواج لطف الخالق تسبح في فضائه، ليس هناك وجود للأصنام من أي نوع كانت، ولا يصل طوفان ظُلم الجبارين إلى هذا الكهف.

هؤلاء الفتية الموحدون تركوا الدنيا الملوثة الواسعة والتي كان سجناً لأرواحهم وذهبوا إلى غارٍ مظلم جاف. وفعلهم هذا يشبه فعل النبي يوسف عليه السلام حين أصروا عليه أن يستسلم لشهوة امرأة العزيز الجميلة، وإلا فالسجن الموحش المظلم سيكون في انتظاره، لكن هذا الضغط زاد في صموده وقال متوجهاً إلى ربه العظيم: ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ﴾.

مكان أصحاب الكهف

يُشير القرآن إلى التفاصيل الدقيقة المتعلِّقة بالحياة العجيبة لأصحاب الكهف في الغار، وكأنّها تحكى على لسان شخص جالس في مقابل الغار ينظر إليهم.

في سورة الكهف إشارة إلى ست خصوصيات هي:

أوّلاً: فتحة الغار كانت باتجاه الشمال، ولكونه في الجزء الشمالي من الكرة الأرضية، فإنَّ ضوء الشمس كان لا يدخل الغار بشكلٍ مباشر، فالقرآن يقول إنّك إذا رأيت الشمس حين طلوعها لرأيت أنّها تطلع من جهة يمين الغار، وتغرب من جهة الشمال: ﴿وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ...﴾. ولأنَّ فتحة الغار كانت إلى الشمال فإنَّ الرياح اللطيفة والمعتدلة كانت تهب من طرف الشمال وكانت تدخل بسهولة إلى داخل الغار، وتؤدي إلى تلطيف الهواء في جميع زوايا الغار.

ثانياً: ﴿...وهم في فجوةٍ مِّنْهُ...﴾. لقد كان أولئك في مكان واسع من الغار، وهذا يدل على أنّهم لم يأخذوا مستقرَّهم في فتحة الغار التي تتسم بالضيق عادة، بل إنّهم انتخبوا وسط الغار مستقراً لهم كي يكونوا بعيدين عن الأنظار، وبعيدين أيضاً عن الأشعة المباشرة لضوء الشمس.

ثالثاً: إنَّ نوم أصحاب الكهف لم يكن نوماَ عادياً: ﴿...وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ...﴾ وهذا يدل على أن أجفانهم كانت مفتوحة بالضبط مثل الإنسان اليقظ، وقد تكون هذه الحالة الاستثنائية لكي لا تقترب منهم الحيوانات المؤذية التي تخاف الإنسان اليقظ. أو لكي يكون شكلهم مرعباً كي لا يتجرأ إنسان على الاقتراب منهم. وهذا بنفسه أسلوب للحفاظ عليهم.

رابعاً: وحتى لا تتهرأ أجسامهم بسبب السنين الطويلة التي مكثوا فيها نياماً في الكهف، فإن الله تبارك وتعالى يقول: ﴿...ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ...﴾. حتى لا يتركز الدم في مكان معين، ولا تكون هناك آثار سيئة على العضلات الملاصقة للأرض بسبب الضغط عليها لمدة طويلة.

خامساً: في صفٍ جديد يقول تعالى: ﴿...وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيد...﴾. برغم أن الآيات القرآنية لم تتحدث حتى الآن عن كلب أصحاب الكهف، إلاّ أن القرآن هنا يذكر تعابير خاصة تتضح من خلالها بعض المسائل، فمثلاً ذكر حالة كلب أصحاب الكهف يفيد أنّه كان معهم كلب يتبعهم أينما ذهبوا ويقوم بحراستهم. أمّا متى التحق هذا الكلب بهم، وهل كان كلب صيدهم، أو أنّه كلب ذلك الراعي الذي التقى بهم في منتصف الطريق، وعندما عرف حقيقتهم أرسل حيواناته إلى القرية والتحق بهم، لأنّه كان يبحث عن الحقيقة مثلهم وقد رفض هذا الكلب أن يتركهم واستمرّ معهم. ألا يعني هذا الكلام أن جميع المحبّين –لأجل الوصول إلى الحق- يستطيعون سلوك هذا الطريق، وأن الأبواب غير مغلقة أمام أحد سواء كانوا وزراء عند الملك الظالم ثمّ تابوا، أو كان راعياً، بل وحتى كلبه؟! ألم يؤكّد القرآن أنّ جميع ذرات الوجود في الأرض والسماء، وجميع الأشجار والأحياء تذكر الله، وتحبّ الله في قلوبها وصميم وجودها؟ 

سادساً: قوله تعالى: ﴿...لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبً﴾. إنها ليست المرة الأولى ولا الأخيرة التي يحفظ فيها الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين بالرعب والخوف، فقد واجهتنا صورة مماثلة جسّدها قول الله تبارك وتعالى: ﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ...﴾. وفي دعاء الندبة نقرأ كلام حول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "ثمّ نصرته بالرعب". أو ما هو سبب الرعب في مشاهدة أهل الكهف، وهل يعود ذلك لظاهرهم الجسماني، أو بسبب قوة معنوية سرية؟ الآيات القرآنية لم تتحدث عن ذلك.

اليقظة بعد نومٍ طويل:

إنَّ نوم أصحاب الكهف كان طويلاً للغاية بحيث استمر (309) سنة، وعلى هذا الأساس كان نومهم أشبه بالموت، ويقظتهم أشبه بالبعث، لذا فإنَّ القرآن يقول ﴿وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ...﴾.

يعني مثلما كُنّا قادرين على إنامتهم نوماً طويلاً فإنَّنا أيضاً قادرون على إيقاظهم. لقد أيقظناهم من النوم: ﴿...لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ...﴾.

﴿...قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ...﴾. لعل التردّد والشك هنا يعود إلى أن أصحاب الكهف دخلوا الغار في بداية اليوم، ثمّ ناموا، وفي نهاية اليوم استيقظوا من نومهم، ولهذا السبب اعتقدوا في بادئ الأمر بأنّهم ناموا يوماً واحداً، وبعد أن رأوا حالة الشمس، قالوا: بل ﴿بَعْضَ يَوْم﴾.

وأخيراً، بسبب عدم معرفته لمقدار نومهم قالوا: ﴿...قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ...﴾. قال بعضهم: إن قائل هذا الكلام هو كبيرهم المسمى (تلميخا) وبالنسبة لاستخدام صيغة الجمع على لسانه (قالوا) فهو متعارف في مثل هذه الموارد وقد يكون كلامهم هذا بسبب شكِّهم في أنَّ نومهم لم يكن نوماً عادياً، وذلك عندما شاهدوا هندامهم وشعرهم وأظافرهم وما حلَّ بملابسهم.

ولكنهم –في كل الأحوال- كانوا يحسون بالجوع وبالحاجة الشديدة إلى الطعام، لأنَّ المخزون الحيوي في جسمهم انتهى أو كاد، لذا فأول اقتراح لهم هو إرسال واحد منهم مع نقود ومسكوكات فضية لشراء الغذاء: ﴿...فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ...﴾.

ثمّ أردفوا: ﴿...وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدً﴾. لماذا هذا التلطّف: ﴿إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ...﴾، ثمّ: ﴿...وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدً﴾.

أزكى الطعام 

مع أنّ أصحاب الكهف كانوا بعد يقظتهم بحاجة شديدة إلى الطعام، إلاَّ أنّهم قالوا للشخص الذي كلَّفوه بشراء الطعام: لا تشتر الطعام مِن أيّ كان،، وإنما انظر أيُهم أزكى وأطهر طعامًا فأتنا منهُ.

بعض المفسّرين تأولوا المعنى وقالوا: إِنَّ المقصود من (أزكى) هو ما يعود إلى الحيوانات المذبوحة، إذ أنّهم كانوا يعملون أنَّ في تلك المدينة لحم الميتة (أي غير المذبوح على الطريقة الشرعية) وأنَّ البعض يكتسَّب بالحرام، لذلك أوصلوا صاحبهم بضرورة أن يتجنب مثل هؤلاء الأشخاص عندما يحاول شراءِ الطعام.

ولكن يظهر أنَّ لهذه الحملة مفهومًا واسعًا يشمل كافة أشكال الطهارات الظاهرية والباطنية (المعنوية).

لقد وصلت بسرعة أصداء هجرة هذه المجموعة مِن الرّجال المتشخّصين إلى كلَّ مكان وأغاظت بشدّة الملك الظالم، حيث قدّر أن تكون هذه الهجرة مقدّمة ليقظة ووعي الناس، أو قد يذهب أصحاب الكهف إلى مَناطق بعيدة أو قريبة ويقومون بتبليغ مذهب التوحيد والدعوة إليه، ومحاربة الشرك وعبادة الأصنام.

لقد أصدر الحاكم تعليماته إلى جهاز شرطته للبحث عن أصحاب الكهف في كل مكان، وعليهم أن يتبعوا آثارهم حتى إلقاء القبض عليهم معاقبتهم.

ولكن كلما بحثوا لم يعثروا على شيء، وهذا الأمر أصبح بحدَّ ذاته لغزًا للناس، ونقطة انعطاف في أفكارهم وقد يكون هذا الأمر –وهو قيام مجموعة من ذوي المناصب في الدولة بترك مواقعهم العالية في الدولة وتعريض أنفسهم للخطر- هو بحدَّ ذاته سببًا ليقظة الناس ومصدرًا لوعيهم، أو لوعي قسم منهم على الأقل.

ولكن في كل الأحوال، فإِنَّ قصةّ هؤلاء النفر قد استقرت في صفحات التاريخ وأخذت الأجيال والأقوام تتناقلها عبر مئات السنين.

المأمور بالشراء في المدينة:

والآن لنعد إلى الشخص المكلَّف بشراء الطعام ولننظر ماذا جرى له.

لقد دَخل المدينة ولكنَّهُ فغَر فاه مِن التعجُّب فالشكل العام للبناء قد تغيَّر، هندام الجميع ولباسهم غريب عليه، الملابس من طراز جديد، خرائب الأمس تحولت إلى قصور!

لقد ظنَّ –للحظة واحدة- أنَّهُ لا يزال نائمًا، وأنَّ ما يُشاهده ليس سوى أحلام، فركَ عينيه، إِلاَّ أنَّه التفت إلى ما يراه، وهو عين الحقيقة، وإِن كانت عجيبة ولا يمكن تصديقها.

إِنَّهُ لا يزال يعتقد بأنَّ نومهم في الغار كان ليوم أو بعض يوم، فلماذا هذا الإِختلاف، وكيف تمَّت كل هذه التغييرات الكبيرة والواسعة في ظرف يوم واحد؟!

ومن جانب آخر كان منظره هو عجيبًا للناس وغير مألوف. ملابسهُ، كلامه، شكلهُ كل شيء فيه بدا غريبًا للناس، وقد يكون هذا الوضع قد لفت أنظارهم إِليه، لذا قام بعضهم بمُتابعته.

لقد انتهى عجبه عِندما مدَّ يدهُ إلى جيبيه لِيُسدَّد مبلغ الطعام الذي اشتراه، فالبائع وقع نظره على قطعة نقود ترجع في قدمها إلى (300) سنة، وقد يكون اسم (دقيانوس) الملك الجبار مكتوبًا عليها، وعندما طلب منهُ توضيحًا قالَ بأنّهُ حصل عليها حديثًا.

وقد عرف الناس تدريجيًا مِن خلال سلسلة مِن القرائن أنَّ هذا الشخص هو واحد مِن أفراد المجموعة الذين قرأوا عن قصّتهم العجيبة والتاريخية التي وقعت قبل (300) سنة، وأنَّ قصّتهم كانت تدور على الألسن في اجتماعات الناس وندواتهم، وهنا أحسَّ الشخص بأنَّه وأصحابه كانوا في نومٍ عميق وطويل.

هذه القضية كانَ لها صدى كالقنبلة في المدينة، وقد انتقلت عبر الألسن إلى جميع الأماكن.

قال بعض المؤرّخين: إِنَّ حكومة المدينة كانت بيد حاكم صالح ومؤمن، إِلاَّ أنَّ استيعاب وفهم قضية المعاد الجسماني وإِحياء الموتى بعد الموت كان صعبًا جدًّا على أفراد ذلك المجتمع، فقسم مِنهم لم يكن قادرًا على التصديق بأنَّ الإِنسان يُمكن أن يعود للحياة بعدَ الموت، إلاَّ أنَّ قصّة أصحاب الكهف أصبحت دليلاً قاطعًا لأُولئك الذين يعتقدون بالمعاد الجسماني.

ولذا فإِنَّ القرآن يبيّن أنّنا كما قمنا بإِنامتهم نقوم الآن بإِيقاظهم حتى ينتبه الناس: ﴿وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ ثمّ قال تعالى: ﴿وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَ﴾.

حيث أنَّ هذا النوم الطويل الذي استمرَّ لمئات السنين كان يشبه الموت، وأن إِيقاظهم يشبه البعث. بل يمكن أن نقول: إِنَّ هذه الإِنامة والإِيقاظ هي أكثر إثارة للعجب مِن الموت والحياة في بعض جوانبها، فمن جهة قد مرَّت عليهم مئات السنين وهم نيام وأجسامهم لم تفنَ أو تتأثَّر، وقد بقوا طوال هذه المدَّة بدون طعام أو شراب، إِذن كيف بقوا أحياءً طيلةَ هذه المدَّة؟

أليسَ هذا دليلاً قاطعًا على قدرة الله على كل شيء، فالحياة بعد الموت، بعد مُشاهدة هذه القضية ممكنة حتمًا.

نهاية قصّة أصحاب الكهف

إِنَّ الشخص الذي أرسل لتهيئة الطعام وشرائه، عاد بسرعة إلى الكهف وأخبر رفقاءه بما جرى، وقد تعجب كل منهم، وبعد أن علموا بفقدان الأهل والأولاد والأصدقاء والإِخوان، ولم يبق مِن أصحابهم أحد، أصبحت الحياة بالنسبة إِليهم صعبة للغاية، فطلبوا مِن الخالق جلَّ وعلا إن يُميتهم، وينتقلون بذلك إلى جوار رحمته. وهذا ما حدث.

لقد ماتوا ومضوا إلى رحمة ربَّهم، وبقيت أجسادهم في الكهف عندما وصلهُ الناس.

وهنا حدث النزاع بين أنصار المعاد الجسماني وبين مَن لم يعتقد به، فالمعارضون للمعاد كانوا يُريدون أن تنسى قضية نوم ويقظة أصحاب الكهف بسرعة، كي يُسلبوا أنصار المعاد الجسماني هذا الدليل القاطع، لذا فقد اقترح هؤلاء أن تُغلق فتحة الغار، حتى يكون الكهف خافيًا إلى الأبد عن أنظار الناس. قال تعالى: ﴿إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانً﴾.

ولأجل إسكات الناس عن قصّتهم كانوا يقولون: لا تتحدثوا عنهم كثيرًا، إِنَّ قضيتهم معقدة ومصيرهم محاط بالألغاز!! لذلك فإِن: ﴿رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ﴾. أي اتركوهم وشأنهم واتركوا الحديث في قصّتهم.

أمّا المؤمنون الحقيقيون الذين عرفوا حقيقة الأمر واعتبروه دليلاً حيًّا لإِثبات المعاد بعد الموت فقد جَهدوا على أن لا تنسى القصة أبدًا لذلك اقترحوا أن يتخذوا قرب مكانهم مسجدًا، وبقرينة وجود المسجد فإِنَّ الناس سوف لن ينسوهم أبدًا، بالإضافة إلى ما يتبرك بهِ الناس مِن آثارهم:﴿قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدً﴾.

القرآن بعدها يُشير إلى بعض الاختلافات الموجودة بين الناس حول أصحاب الكهف، فمثلاً يتحدث عن اختلافاتهم في عددهم فيقول: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾. وبعضهم ﴿وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾. وذلك منهم ﴿رَجْمًا بِالْغَيْبِ﴾. وبعضهم ﴿وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾. أمّا الحقيقة فهي: ﴿قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم﴾. ولذلك لأنّه ﴿مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ﴾.

وبالرغم مِن أنَّ القرآن لم يشر إلى عددهم بصراحة، لكن نفهم مِن العلامات الموجودة في الآية أنَّ القول الثالث هو الصحيح المطابق للواقع، حيث أنَّ كلمة ﴿رَجْمًا بِالْغَيْبِ﴾ وردت بعد القول الأول والثاني، وهي إشارة إلى بُطلان هَذين القولين، إلاَّ أنَّ القول الثالث لم يُتبع بمثل الاستنكار بل استتبع بقوله تعالى: ﴿قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم﴾ وأيضًا بقوله ﴿مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ وهذا بحدَّ ذاته دليل على صحة هذا القول (الثالث).

وفي كل الأحوال فإنَّ الآية تنتهي بنصيحة تحث على عدم الجدال حولهم إلا الجدل القائم على أساس المنطق والدليل: ﴿فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرً﴾.

وعلى أية حال فإنَّ مفهوم الكلام هو: عليك أن تتحدث معهم بالاعتماد على الوحي الإلهي، لأنَّ أقوى الأدلة هو ما يصدر عن الوحي دون غيره: ﴿وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدً﴾.

نوم أصحاب الكهف:

مِن القرائن الموجودة في القرآن الكريم نفهم إجمالاً أنَّ نوم أصحاب الكهف كان طولاً جدًا. هذا الموضوع يُثير غريزة الاستطلاع عند كل مستمع، إذ يريد أن يعرف كم سنة بالضبط استمرَّ نومهم؟

وفي المقطع الأخير من مجموعة هذه القصة التي تتحدث عن أصحاب الكهف، تُبعد الآيات الشك عن المستمع وتقول له: ﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا﴾.

إنَّ مجموع نومهم وبقائهم في الكهف هو (309) سنة. والبعض يرى أن ذكر ثلاثمائة وتسعة مفصولة بدلاً عن ذكرها في جملة واحدة، يعود إلى الفرق بين السنين الشمسية والسنين القمرية حيثُ أنهم ناموا (300) سنة شمسية، وبالقمري تعادل (309). وها من لطائف التعبير حيث أوجز القرآن بعبارة واحدة صغيرة، حقيقة كبيرة تحتاج إلى شرح واسع.

ومِن أجل وضع حد لأقاويل الناس حول مكثهم في الكهف تؤكّد الآية ﴿قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُو﴾ لماذا؟ لأن: ﴿ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾.

والذي يعرف خفايا وظواهر عالم الوجود ويحيط بها جميعًا، كيف لا يعرف مدّة بقاء أصحاب الكهف.

أين كانَ الكهف؟

للعلماء كلام كثير حول أصحاب الكهف. أين كانت منطقتهم؟ وأين يقع الكف الذي مكثوا فيه؟

وهنا ينبغي أن نلاحظ أنَّهُ بالرغم مِن أنَّ العثور على المكان الدقيق لهذه الحادثة لا يؤثَّر كثيرًا عل أصل القصة ودروسها التربوية وأهميتها التاريخية، وبالرغم من أنَّ معرفة محل الحادث يُساعدنا حتمًا في فهم أكثر لخصوصيات هذه القصة. وعلى أيةِ حال هُناك قولان راجحان من بين الاحتمالات الكثيرة المطروحة عن مكان الكهف يمكن أن نجملها بما يلي:

أولاً: إنَّ هذه الحادثة وقعت في مدينة (أفسوس) وهذا الكهف كان يقع بالقرب منها. ويمكن في الوقت الحاضر مشاهدة خرائب هذه المدينة بالقرب من مدينة (أزمير) التركية، وبالقرب من قرية (أياصولوك) وفي جبال (ينايرداغ) حيثُ يوجد كهف لا يبتعد كثيرًا عن أفسوس.

إنَّ هذا الكهف هو غار وسيع، ويقال بأنَّه يمكن في داخله مشاهدة آثار القبور، ويعتقد الكثيرون بأنَّ الغار هو غار أصحاب الكهف. وقد نقل من شاهد الكهف أنَّ الغار باتجاه الشمال الشرقي، وقد كان هذا الوقع سببًا في ترجيح شك بعض المفسرين الكبار بكون الغار هو الكهف المقصود لأنَّ دلالة أن تكون الشمس عند الشروق على يمين الغار، وعند الغروب على يساره، هو أن تكون فتحة الغار باتجاه الشمال أو تميل قليلاً نحو الشمال الشرقي.

بالطبع لا يقلَّل مِن صحة الموضوع عدم وجود مسجد أو معبد إلى جانبه، حيثٌ يمكن أن تكون آثاره قد اندثرت بعد مرور حوالي (17) قرن على الحادث.

ثانيًا: يقع الغار بالقرب من (عمّان) عاصمة الأردن، وبالقرب من قرية تسمى (رجيب). ويمكن مشاهدة آثار صومعة فوق الغار تعود –وفقًا لبعض القرائن- إلى القرن الخامس الميلادي، تحوَّلت إلى مسجد ذي محراب ومئذنة بعد سيطرة المسلمين على ذلك المكان.

قصة أصحاب الكهف في المصادر التاريخية للأقوام المختلفة:

من المسلم به أنَّ قصة أصحاب الكهف لم تكن مذكورة في أي مِن الكتب السماوية السابقة (سواء الكتب الأصلية أو المحرّفة الموجودة الآن) ويذكر أن لا تذكر، لأنَّ الحادثة –طبقًا للتاريخ العام- كانت وقعت في القرون التبيت تليت ظهر المسيح عيسى عليه السلام.

إنَّ حادثة أصحاب الكهف وقعت في زمان (دكيوس) (التي تُعرَّب بدقيانوس) حيثُ تعرّض المسيحيون في عصره إلى تعذيب شديد.

ويقول المؤرخون الأوربيون/ إنَّ الحادثة وقعت في الفترة من 49-251 ميلادي، وبذلك يرى هؤلاء المؤرخون أنَّ مدة نوم أصحاب الكهف لم تستغرق سوى (157) سنة، ويطلقون عليهم لقب (النائمون السبعة لأفسوس) في حين أنّهم يُعرفون بيننا بأصحاب الكهف.

والآن لنتعرف أين تقع (أفسوس) هذه؟ ومَن أول عالم كتب كتابًا عن قصة هؤلاء السبعة النائمين؟ وفي أي قرن حصل ذلك.

(أفسوس) أو (أفسس) بضم الألف والسين، هي واحدة من مدن آسيا الصغرى (تركيا الحالية التي هي جزء مِن مملكة الروم الشرقية القديمة) وتقع بالقرب من نهر (كاستر) وعلى بعد (40) ميلاً تقريبًا جنوب شرقي (أزمير) حيثُ كانت عاصمة الملك (الونى).

وقد اشتهرت (أفسوس) بسبب بسبب معبدها الوثني المعروف بـ (أرطاميس) الذي يُعتبر أحد عجائب الدنيا السبع.

ويقولون: إنَّ قصة أصحاب الكهف شُرحت لأول مرة في رسالة السريانية كتبها عالم مسيحي يسمى (جاك) الذي كان رئيسًا للكنيسة السورية، وذلك في القرن الخامس الميلادي، ثمّ شخص آخر يسمى (جوجويوس) بترجمة تلك الرسالة إلى اللاتينية وسمّها بـ (جلال الشهداء). وهذا الأمر يُبيَّن أنَّ الحادثة كانت معروفة بين المسيحيين قبل قرن أو قرنين من ظهور الإسلام، وكانت الكنائس تهتم بها.

بالطبع بعض أحداث القصة –مثل مدة نوم أصحاب الكهف- تختلف عما ورد في المصادر الإسلامية، فالقرآن يقول –وبصراحة- بأنَّ نومهم كان (309) سنة.

من جانب ثانٍ وطبقًا لما ينقلهُ ياقوت الحموي في معجم البلدان وطبقًا لما ينقلهُ (ابن خردادبه) كتاب (المسالك والممالك) وطبقًا –أيضًا- لما يقوله أبو ريحان البيروني في كتاب (الآثار الباقية): إنَّ مجموعة من السواح القدماء قد وجدوا غارًا في مدينة (آبس) فيه بعض الأجساد المتيبسة، وقد احتملوا أن هذه الآثار تتعلق بقصة أصحاب الكهف.

مِن سياق الآيات القرآنية في سورة الكهف، وأسباب النزول المذكورة في المصادر الإسلامية، نستفيد أنَّ الحادثة كانت أيضًا معروفة بين علماء اليهود، وأنّها كنت عندهم حادثة تاريخية مشهورة. وبذلك يتّضح –بدقة- أنَّ قصّة النوم الطويل لأصحاب الكهف وردت في المصادر التاريخية للأقوام المختلفة.

* قصص قرآنية /مكارم الشيرازي.

قصة ذو القرنين العجيبة ((قصص قرآنية))

قصة ذو القرنين العجيبة
((قصص قرآنية))

إن مجموعة من قريش قررت اختبار الرسول الأكرم صلى الله عليه واله، وقامت هذه المجموعة بالتنسيق مع اليهود واستشارتهم بطرح ثلاث قضايا هي: تأريخ الفتية من أصحاب الكهف.

والسؤال عن ماهية الروح، أما القضية الثالثة فقد كانت حول "ذو القرنين".

إن قصة "ذو القرنين" تدور حول شخصية أثارت اهتمامات الفلاسفة والباحثين منذ القدم. وقد بذلت جهود ومساعي كثيرة للتعرف على هذه الشخصية.

وسنقوم أولاً بذكر قصة ذي القرنين حيث أن حياته مع قطع النظر عن جوانبها التاريخية بمثابة درس كبير ومليء بالعبر، ثم ننتقل إلى بحوث لمعرفة شخصية ذي القرنين نفسه مستفيدين في ذلك من الروايات الإسلامية، ومما أشار إليه المؤرخون في هذا الصدد.

بتعبير آخر: إن ما يهمنا أولاً هو الحديث عن شخصية ذي القرنين، وهو ما فعله القرآن، حيث يقول تعالى: ﴿ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا ﴾.

إن بداية الآية تبين لنا ان قصة "ذو القرنين" كانت متداولة ومعروفة بين الناس، ولكنها كانت محاطة بالغموض والإبهام، لهذا السبب طالبوا الرسول الأكرم صلى الله عليه واله الإدلاء حولها بالتوضيحات اللازمة.

وفي إستئناف الحديث عن ذي القرنين يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ﴾. أي منحناه سبل القوة والقدرة والحكم.

﴿ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا {الكهف 84} فَأَتْبَعَ سَبَبًا {الكهف85} حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ﴾ فرأى أنها تغرب في بحر غامق أو عين ذات ماء آجن: ﴿ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ﴾.

(حمئة) تعني في الأصل الطين الأسود ذا الرائحة الكريهة، أو الماء الآسن الموجود في المستنقعات. وهذا الوصف يبين لنا بأن الأرض التي بلغها "ذو القرنين" كانت مليئة بالمستنقعات، بشكل كان ذو القرنين يشعر معه بأن الشمس كانت تغرب في هذه المستنقعات، تماماً كما يشعر بذلك مسافر البحر، وسكان السواحل الذين يشعرون بأن الشمس قد غابت في البحر أو خرجت منه!.

﴿ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمً﴾ أي مجموعة من الناس فيهم الصالح والطالح، هؤلاء القوم هم الذين خاطب الله ذا القرنين في شأنهم: ﴿ قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنً﴾.

بعد ذلك يحكي القرآن جواب "ذى القرنين" الذي قال: ﴿قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرً﴾. أي إن الظالمين سينالون العذاب الدنيوي والأخروي معاً.

﴿وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى﴾... ﴿وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرً﴾.

أي أننا سنتعامل معه بالقول الحسن، فضلا عن أننا سنخفف عنه ولا نجعله يواجه المشاكل والصعاب، بالإضافة إلى أننا سوف لن نجبي منه ضرائب كثيرة.

والظاهر أن ذا القرنين أراد من ذلك أن الناس سينقسمون مقابل دعوته إلى التوحيد والإيمان والنهي عن الظلم والفساد إلى مجموعتين،

الأولى: هي المجموعة التي سترحب ببرنامجه الإلهي ودعوته للتوحيد والإيمان وهذه ستجزى بالحسنى وستعيش حياة آمنة ومطمئنة.

أما الثانية: فستتخذ موقفاً عدائياً من دعوة ذي القرنين وتقف في الجبهة المناوئة، وتستمر في شركها وظلمها، وتواصل فسادها. وهي لذلك ستعاقب نتيجة موقفها هذا أشد العقاب.وعندما إنتهى "ذو القرنين" من سفره إلى الغرب توجه إلى الشرق حيث يقول القرآن في ذلك: ﴿ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبً﴾ أي استخدم الوسائل والإمكانات التي كانت بحوزته.

﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ﴾. وهنا رأى أنه: ﴿ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرً﴾. وفي اللفظ كناية عن أن حياة هؤلاء الناس بدائية جداً، ولا يملكون سوى القليل من الملابس التي لا تكفي لتغطية أبدانهم من الشمس.

﴿كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرً﴾. هكذا كانت أعمال "ذو القرنين" ونحن نعلم جيداً بإمكاناته.

كيف تم بناء سد ذي القرنين؟

القرآن الكريم يشير إلى سفرة أخرى من أسفار ذي القرنين حيث يقول: ﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبً﴾. أي بعد هذه الحادثة استفاد من الوسائل المهمة التي كانت تحت تصرفه ومضى في سفره حتى وصل إلى موضع بين جبلين: ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلً﴾.

إشارة إلى أنه وصل إلى منطقة جبلية، وهناك وجد أناساً (غير المجموعتين اللتين عثر عليهما في الشرق والغرب) كانوا على مستوى دانٍ من المدينة، لأن الكلام أحد أوضح علائم التمدن لدى البشر. 

في هذه الأثناء اغتنم هؤلاء القوم مجيء ذي القرنين، لأنهم كانوا في عذاب شديد من قبل أعدائهم يأجوج ومأجوج، لذا فقد طلبوا العون منه قائلين: ﴿قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّ﴾.

قد يكون كلامهم هذا تم عن طريق تبادل العلامات والإشارات، لأنهم لا يفهمون لغة ذي القرنين، أو أنهم تحدثوا معه بعبارات ناقصة لا يمكن الإعتداد بها. يمكن أن نستفيد أن تلك المجموعة من الناس كانت ذات وضع جيد من حيث الإمكانات الإقتصادية، إلا أنهم كانوا ضعفاء في المجال الصناعي والفكري والتخطيطي، لذا فقد تقبلوا بتكاليف بناء هذا السد المهم، بشرط أن يتكفل ذو القرنين ببنائه وهندسته. أما ذو القرنين فقال: ﴿آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ﴾.

وعندما تهيأت قطع الحديد أعطى أمراً بوضع بعضها فوق البعض الآخر حتى غطّي بين الجبلين بشكل كامل: ﴿ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ﴾.

الأمر الثالث لذي القرنين هو طلبه منهم أن يجلبوا الحطب وما شابهه، ووضعه على جانبي هذا السد، وأشعل النار فيه ثم أمرهم بالنفخ فيه حتى احمرَّ الحديد من شدة النار: ﴿قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا﴾.

لقد كان يهدف ذو القرنين من ذلك ربط قطع الحديد بعضها ببعض ليضع منها سداً من قطعة واحدة، وعن طريق ذلك، قام ذو القرنين بنفس عمل (اللحام) الذي يقام به اليوم في ربط أجزاء الحديد بعضها ببعض.

أخيراً أصدر لهم الأمر الأخير فقال: اجلبوا لي النحاس المذاب حتى أضعه فوق هذا السد: ﴿قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرً﴾.

وبهذا الشكل قام بتغطية هذا السد الحديدي بطبقة النحاس حتى لا ينفذ فيه الهواء ويحفظ من التآكل.

بعض المفسرين قالوا: إن علوم اليوم أثبتت أنه عند إضافة مقدار من النحاس إلى الحديد فإن ذلك سيزيد من مقدار مقاومته، ولأن "ذا القرنين" كان عالماً بهذه الحقيقة فقد أقدم على تنفيذه.

وأخيراً، أصبح هذا السد بقدر من القوة والإحكام بحيث: ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبً﴾.

لقد كان عمل ذي القرنين عظيماً ومهماً، وكان له وفقاً لمنطق المستكبرين ونهجهم أن يتباهى به أو يمن به، إلا أنه قال بأدب كامل: ﴿قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي﴾ لأن أخلاقه كانت أخلاقاً إلهية.

إنه أراد أن يقول: إذا كنت أملك العلم والمعرفة وأستطيع بواسطتها أن أخطو خطوات مهمة، فإن كل ذلك إنما كان من قبل الخالق جل وعلا، وإذا كنت أملك قابلية الكلام والحديث المؤثر فذلك أيضاً من الخالق جل وعلا.

وإذا كانت مثل هذه الوسائل والأفكار في اختياري فإن ذلك من بركة الله ورحمته الخالق الواسعة.

أراد ذو القرنين أن يقول: إنني لا أملك شيئاً من عندي كي أفتخر به، ولم أعمل عملاً مهماً كي أمُنَّ على عباد الله.

ثم استطرد قائلاً: لا تظنوا أن هذا السد سيكون أبدياً وخالداً: ﴿فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء﴾. ﴿وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّ﴾. لقد أشار ذو القرنين في كلامه هذا إلى قضية فناء الدنيا وتحطم هيكل نظام الوجود فيها عند البعث.

من هو ذو القرنين؟

ذكر المفسرون كلاماً كثيراً عن شخصية ذي القرنين الوارد في القرآن الكريم، فمن هو؟ وعلى أي واحد من الشخصيات التأريخية المعروفة تنطبق أوصافه ويمكن أن نرجع الآراء إلى ثلاث نظريات أساسية: وأخذت النظريات في هذا المجال وردت عن المفكر الإسلامي المعروف (أبو الكلام آزاد) الذي شغل يوماً منصب وزير الثقافة في الهند. وقد أورد رأيه في كتاب حققه في هذا المجال. وطبقاً لهذه النظرية فإن ذا القرنين هو نفسه (كورش الكبير) الملك الأخميني.

لماذا سمي ذو القرنين بهذا الإسم؟

البعض يعتقد أن سبب التسمية تعود إلى وصوله للشرق والغرب، حيث يعبر العرب عن ذلك بقرني الشمس.

البعض الآخر يرى بأنه عاش قرنين أو أنه حكم قرنين، وأما ما مقدار القرن فهناك آراء مختلفة في ذلك.

البعض الثالث يقول: كان يوجد على طرفي رأسه بروز (قرن)، ولهذا السبب سمي بذي القرنين.

وأخيراً فإن البعض يعتقد بأن تاجه الخاص كان يحتوي على قرنين.

صفات ذي القرنين الممتازة

لو لاحظنا بدقة القرآن الكريم لاستفدنا أن ذا القرنين كانت له صفات ممتازة هي:

هيأ له الله جل وعلا أسباب القوة ومقدمات الانتصار، وجعلها تحت تصرفه وفي متناول يده.

لقد جهز ثلاثة جيوش مهمة: الأول إلى الغرب، والثاني إلى الشرق، والثالث إلى المنطقة التي تضم المضيق الجبلي، وفي كل هذه الأسفار كان له تعامل خاص مع الأقوام المختلفة حيث ورد تفصيل ذلك في الآيات السابقة.

كان رجلاً مؤمناً تجلى فيه صفات التوحيد والعطف، ولم ينحرف عن طريق العدل، ولهذا السبب فقد شمله اللطف الإلهي الخاص، إذ كان ناصراً للمحسنين وعدوّا للظالمين، ولم يكن يرغب أو يطمع بمال الدنيا كثيراً.

كان مؤمناً بالله وباليوم الآخر.

لقد صنع واحداً من أهم وأقوى السدود، السد الذي استفاد لصنعه من الحديد والنحاس بدلاً من الطابوق والحجارة. (وإذا كانت هناك مواد أخرى مستخدمة فيه، فهي لا يعتبر شيئاً بالقياس إلى الحديد والنحاس) أما هدفه من بنائه فقد تمثل في مساعدة المستضعفين في قبال ظلم يأجوج ومأجوج.

كان شخصاً مشهوراً بين مجموعة من الناس، وذلك قبل نزول القرآن، لذا فإن قريش أو اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه واله عنه، كما يصرح بذلك الكتاب العزيز في قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ﴾.

ولا يمكن الاستفادة بشيء من صريح القرآن للدلالة على أنه كان نبياً، بالرغم من وجود تعابير تشعر بهذا المعنى.

ونقرأ في العديد من الروايات الإسلامية الواردة عن الرسول صلى الله عليه واله وأئمة أهل البيت عليه السلام أنه: "لم يكن نبياً بل عبداً صالحاً".

أين يقع سد ذي القرنين؟

بالرغم من محاولة البعض المطابقة بين سد ذي القرنين وبين جدار الصين الذي لا يزال موجوداً ويبلغ طوله مئات الكيلومترات، إلا أن الواضح أن جدار الصين لا يدخل في بنائه الحديد ولا النحاس، ومضافاً إلى ذلك لا يقع في مضيق جبلي ضيق، بل هو جدار مبني من مواد البناء العادية ويبلغ طول مئات الكيلومترات، ومازال موجوداً حتى الآن.

البعض يرى في سد ذي القرنين أنه سد مأرب في اليمن، ولكن هذا السد برغم وقوعه في مضيق جبلي، إلا أنه أنشئ لمنع السيل ولخزن المياه، ولم يدخل النحاس والحديد في بنائه.

ولكن بالاستناد إلى شهادة العلماء وأهل الخبرة فإن السد – كما أشرنا لذلك قبل قليل – يقع في أرض القوقاز بين بحر الخزر والبحر الأسود، حيث توجد سلسلة جبلية كالجدار تفصل الشمال عن الجنوب، والمضيق الوحيد الذي يقع بين هذه الجبال الصخرية هو مضيق "داريال" المعروف، ويشاهد فيه جدار حديدي أثري حتى الآن، ولهذه الجهات يعتقد الكثيرون أنَّ سد "ذو القرنين" يقع في هذا المضيق، وأنَّ المتبقي من مواصفات آثاره دليل مؤيد لذلك.

الطريف في الأمر أنه يوجد نهر على مقربة من ذلك المكان يسمى "سائرس" أي "كورش" إذ كان اليونان يسمون كورش بـ (سائرس).

الآثار الأرمينية القديمة كانت تطلق على هذا الجدار اسم "بهاك كورائي" والتي تعني "مضيق كورش" أو "معبر كورش" وهذا دليل آخر على أن كورش هو الذي بنى السد.

من هم يأجوج ومأجوج؟

القرآن يؤيد بوضوح أن هذين الاسمين هما لقبيلتين همجيتين كانتا تؤذيان سكان المناطق المحيطة بهم.

ويقول العلامة الطباطبائي، في تفسير الميزان: إنه يستفاد من مجموع ما ذكر في التوراة أن مأجوج أو يأجوج ومأجوج هم مجموعة أو مجاميع كبيرة كانت تقطن أقصى نقطة في شمال آسيا، وهم أناس محاربون يغيرون على الأماكن القريبة منهم.

ثمة أدلة تاريخية على أنّ منطقة شمال شرقي الأرض في نواحي "مغولستان" كانت في الأزمنة السابقة كثيفة السكان، إذ كانت الناس تتكاثر بسرعة، وبعد أن ازداد عددهم اتجهوا نحو الشرق أو الجنوب، وسيطروا على هذه الأراضي وسكنوا فيها تدريجياً.

وقد وردت مقاطع تاريخية مختلفة لحركة هؤلاء الأقوام وهجراتهم.

وفي عصر كورش في حوالي عام (500) قبل الميلاد قامت هذه الأقوام بعدة هجمات، لكن موقف حكومة "ماد وفارس" إزاءهم أدّى إلى تغيير الأوضاع واستتباب الهدوء في آسيا الغربية التي نجت من حملات هذه القبائل.

وبهذا يظهر أن يأجوج ومأجوج هم من هذه القبائل الوحشية، حيث طلب أهل القفقاز من "كورش" عند سفره إليهم أن ينقدهم من هجمات هذه القبائل، لذلك أقدم على تأسيس السد المعروف بسد ذي القرنين.

* قصص الأنبياء / اية الله مكارم الشيرازي.

أصحاب الفيل ((قصص قرآنية))

أصحاب الفيل
((قصص قرآنية))

ذكر المفسرون والمؤرخون هذه القصة بأساليب مختلفة واختلفوا في سنة وقوعها. لكن أصل القصة متوافرة1 (ذو نواس) ملك اليمن اضطهد نصارى نجران قرب اليمن كي يتخلوا عن دينهم2. بعد هذه الجريمة نجا من بين النصارى رجل اسمه (دوس) وتوجه إلى قيصر الروم الذي كان على دين المسيح، وشرح له ما جرى.

و لما كانت المسافة بين الروم واليمن بعيدة، كتب القيصر إلي النجاشي(حاكم الحبشة) لينتقم من (ذو نواس) لنصارى نجران، وأرسل الكتاب بيد القاصد نفسه.

جهز النجاشي جيشاً عظيماً يبلغ سبعين ألف محارب بقيادة (أرياط) ووجهه إلى اليمن. وكان (أبرهة) أيضاً من قواد ذلك الجيش. اندحر(ذون نواس) وأصبح (أرياط) حاكماً على اليمن، وبعد مدة ثار عليه أبرهة وأزاله من الحكم وجلس في مكانه. بلغ ذلك النجاشي، فقرر أن يقمع (أبرهة). لكن (أبرهة) أعلن استسلامه الكامل للنجاشي ووفاء له. حين رأى النجاشي منه ذلك عفا عنه وأبقاه في مكانه.

كنيسة لا نظير لها

و(أبرهة) من أجل أن يثبت ولاءه، بنى كنيسة ضخمة جميلة غاية الجمال، لا يوجد على ظهر الأرض مثلها آنذاك، وقرر أن يدعو أهل الجزيرة العربية لان يحجوا إليها بدل الكعبة، وينقل مكانة الكعبة إلى ارض اليمن.أرسل أبرهة الوفود والدعاة إلى قبائل العرب في أرض الحجاز، يدعونهم إلى حج كنيسة اليمن، فأحس العرب بالخطر لارتباطهم الوثيق بمكة والكعبة ونظرتهم إلى الكعبة على أنها من آثار إبراهيم الجليل عليه السلام تذكر بعض الروايات أن مجموعة من العرب جاؤوا خفية وأضرموا النار في الكنيسة وقيل إنهم لوثوها بالقاذورات، ليعتبروا عن اعتراضهم على فعل أبرهة ويهينوا معبده.

لم العجلة يا أبرهة؟

غضب أبرهة وقرر أن يهدم الكعبة هدماً كاملاً، للانتقام ولتوجيه أنظار العرب إلى المعبد الجديد، فجهز جيشاً عظيماً كان بعض أفراده يمتطي الفيل، واتجه نحو مكة. عند اقترابه من مكة بعث من ينهب أموال أهل مكة، وكان بين النهب مائتا بعير لعبد المطلب. بعث أبرهة قاصداً إلى مكة وقال له: ابحث عن كبير القوم وقل له إن أبرهة مللك اليمن يدعوك. أنا لم آت لحرب، بل جئت لأهدم هذا البيت، فلو استسلمتم، حقنت دماؤكم.

أنا رب الإبل جاء رسول أبرهة إلى مكة وبحث عن شريفها فدلوه على عبد المطلب، فحدثه بحديث أبرهة، فقال عبد المطلب، نحن لا طاقة لنا بحربكم، وللبيت رب يحميه.

ذهب عبد المطلب مع القاصد إلى النجاشي، فلما قدم عليه جعل النجاشي ينظر إليه وراقه حسنه وجماله وهيبته، حتى قام من مكانه احتراماً وجلس على الأرض واجلس عبد المطلب إلى جواره لأنه ما أراد أن يجلس عبد المطلب على سرير ملكة ثم قال لمترجمه اسألهما حاجتك؟ قال عبد المطلب: نهبت إبلي فمرهم بردها علي.

فاندهش أبرهة و قال لمترجمه: قل له إنه احتل مكاناً في قلبي حين رأيته، والآن قد سقط من عيني.أنت تتحدث عن إبلك ولا تذكر وهي شرفك وشرف أجدادك، وأنا قدمت لهدمها؟! قال عبد المطلب: أنا رب الإبل، وللبيت رب يحميه؟! عاد عبد المطلب إلى مكة، وأخبر أهلها أن يلجئوا إلى الجبال المحيطة بها. وذهب هو وجمع معه إلى جوار البيت ليدعو فأخذ حلقة باب الكعبة وأنشد أبياته المعروفة: 
لا هم إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك             لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبداً محالك
جروا جميع بلادهم والفيل كي يسبوا عيالك         ولا هم المرء يمنع رحله فامنع عيالك
                            وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك

ثم لاذ عبد المطلب وجمع من قريش بإحدى شعاب مكة وأمر أحد ولده أن يصعد على جبل(أبو قيس) ليرى ما يجري. عاد الابن مسرعاً إلى أبيه وأخبره أن سحابة سوداء تتجه من البحر(البحر الأحمر) إلى أرض مكة. استبشر عبد المطلب وصاح: (يا معشر قريش ادخلوا منازلكم فقد أتاكم الله بالنصر من عنده).

من جانب إلى جانب، توجه أبرهة راكباً فيله المسمى (محموداً) مع جيشه الجرار مخترقاً الجبال ومنحدرا إلى مكة، لكن الفيل أبى أن يتقدم، أما حينما يوجهوه نحو اليمن يهرول، تعجب أبرهة من هذا وتحير.

وفي هذه الأثناء وصلت طيور قادمة من جانب البحر كأنها الخطاطيف وهي تحمل حجراً في منقارها وحجرين في رجلها، بحجم الحمصة، وألقوها على جيش أبرهة، فأكلتهم. وقيل: إن الحجر كان يسقط على الرجل منهم فيخترقه ويخرج من الجانب الآخر.

ساد الجيش ذعر عجيب، فهلك منه من هلك، وفر منه من استطاع الفرار، وصوب اليمن، وكانوا يتساقطون في الطريق. (أبرهة) أصيب بحجر، وجرح، فأعيد إلى صنعاء عاصمة ملكه، وهناك فارق الحياة. وقيل: إن مرض الحصبة والجدري شوهد لأول مرة في أرض العرب في تلك السنة. وقيل: إن أبرهة جاء بفيل واحد كان يركبه واسمه محمود. وقيل بل ثمانية أفيال، وقيل: عشرة، وقيل: اثني عشر.

وفي هذا العام ولد رسول الله صلى الله عليه واله حسب الراوية المشهورة، وقبل إن بين الحادثتين ارتباطا. على أي حال فإن أهمية هذه الحادثة الكبرى بلغت درجة تسمية ذلك العام بعام الفيل وأصبح مبدأ تاريخ العرب.

المعجزة (للبيت رب يحميه)

القرآن الكريم يذكر هذه القصة الطويلة في عبارات قليلة قصيرة قارعة، وفي غاية الفصاحة والبلاغة، ويركز على نقاط تساعد على تحقيق الأهداف القرآنية المتمثلة في إيقاظ المتعنتين المغرورين وبيان ضعف الإنسان أمام قدرة الجبار المتعال.

هذه الحادثة تبين أن المعجزات والخوارق لا تستلزم- كما ظن بعض- وجود النبي والإمام، بل تظهر في كل ظرف يشاء الله فيه أن تظهر. والهدف منها إظهار عظمة الله سبحانه وحقانية دينه.

هذا العقاب العجيب يختلف عما نزل من عقاب على أمم أخرى مثل طوفان قوم نوح، وزلزال قوم لوط وإمطارهم بالحجارة، وصاعقة قوم ثمود، فهذه سلسلة حوادث طبيعية يتمثل إعجازها في حدوثها في تلك الظروف الخاصة.

أما قصة إبادة جيش أبرهة بحجارة من سجيل، ترميها طير أبابيل وليست كالحوادث الطبيعية. تحليق هذه الطيور الصغيرة، واتجاهها نحو ذلك الجيش الخاص ورميه بالحجارة التي تستطيع أن تهشم أجساد جيش ضخم... كل تلك أمور خارقة للعادة. ولكنها- ما نعلم – ضئيلة جداً أمام قدرة الله تعالى. الله الذي خلق داخل هذه الحجارة قدرة ذرية لو تحررت لولدت انفجاراً هائلاً، لقادر على أن يجعل في هذه الحجارة خاصية تستطيع أن تحول جيش أبرهة عصف مأكول.

لسنا في حاجة لأن نذهب إلى ما ذهب إليه بعض المعاصرين في تفسير هلاك جيش أبرهة بمكروبات وباء الحصبة والجدري أو أن نقول إن هذه الحجارة كانت ذرات متكافئة أزيلت الفراغات بينها فأصبحت ثقيلة للغاية، وقادرة على أن تخترق الأجساد.

كل هذه تبريرات تستهدف إعطاء صفة طبيعية لهذه الحادثة. ولسنا بحاجة إليها. ولم يخبرنا القرآن بأكثر من ذلك، وليس الأمر بمعتذر أمام قدرة الله سبحانه وتعالى.

أشد الجزاء بأبسط وسيلة

يلاحظ أن هذه القصة تتضمن بيان قدرة الله أمام المستكبرين والطغاة على أفضل وجه... ولعل العقاب الذي حل بأبرهة وجيشه لا يبلغه عقاب إذ على أثره تهشم جيش وتحول إلى عصف مأكول. ثم إن إبادة هذا الجيش الجرار بكل ما كان يمتلكه من قدرة وشوكة كانت بواسطة أحجار صغيرة وبواسطة طيور صغيرة كالخطاطيف. وفي هذا تحذير وإنذار لكل الطغاة والمستكبرين في العالم ليعلموا مدى ضعفهم أمام قدرة الله سبحانه.

وقد يوكل الله سبحانه أداء هذه المهام الكبرى لموجودات أصغر مثل الميكروبات التي لا ترى بالعين المجردة لتتكاثر وتتناسل في مدة وجيزة وتصيب أمماً قوية بالأوبئة المختلفة كالطاعون وتبيدهم خلال مدة قصيرة.

(سد مأرب) العظيم في اليمن كان وسيلة لعمران كبير ومدينة عظيمة وقوية لقوم سبأ، وحين طغى هؤلاء القوم، جاء أمر إبادتهم عن طريق فأر صحراوي أو عدد من الفئران فثقبت السد واتسع الثقب تدريجياً بالماء وتحطم السد العظيم، واكتسح الماء كل ما بناه القوم واغرق الأفراد أو شردهم إلى كل حدب وصوب متفرقين حيارى، وهذه من مظاهر قدرة الله سبحانه.

من جهة أخرى هذه الحادثة اقترنت بولادة رسول الله(ص) وكانت ممهدة للبعثة المباركة، وإرهاصاً من إرهاصات بزوغ فجر الإسلام.

والقصة من ناحية ثالثة تهديد لكل طغاة العالم، من قريش وغير قريش ليعلموا أنهم لا يستطيعون أبداً أن يقاوموا أمام قدرة الله تعالى فما أجدر بهم أن يعودوا إلى رشدهم ويخضعوا لأمر الله ويستسلموا بالحق والعدل.

ثم هي من جانب رابع تبين أهمية هذا البيت الكبير. الأعداء الذين استهدفوا هدم الكعبة، ونقل مركزية هذا الحرم الإبراهيمي إلى مكان آخر، قد واجهوا من العذاب ما أصبح عبرة للأجيال وما زاد من أهمية هذا المركز المقدس.

ومن جهة خامسة هذه الحادثة تؤكد مشيئة الله سبحانه في جعل هذا الحرم آمناً استجابة لدعوة إبراهيم الخليل عليه السلام.

حادثة تاريخية قطعية 

حادثة أصحاب الفيل كانت من الأهمية والشهرة بين العرب بحيث جعلوها مبدأ للتاريخ. والقرآن الكريم بدأ الحديث (ألم تر) مخاطباً نبيه(ص) الذي لم ير هذه الحادثة. وهي دلالة على قطعية وقوع الحادثة.

أضف إلى ذلك أن النبي- حين تلا هذه الآيات على المشركين- لم ينكر عليه أحد، ولو كان أمراً لاعترضوا عليه، ولسجل المؤرخون هذا الاعتراض كما سجلوا سائر الاعتراضات.

* تفسير الأمثل / اية الله مكارم الشيرازي _ سورة الفيل.

1- نحن نذكرها استناداً إلى الروايات المعروفة في (سيرة ابن هشام) و(بلوغ الأرب) و(بحار الأنوار) و(مجمع البيان) بتلخيص.
2- ذكر القرآن قصة هذا الاضطهاد في موضوع أصحاب الأخدود في سورة البروج.

المحارق البشرية ((قصص قرآنية)) يقول القرآن الكريم في سوره البروج الآية 4: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾.

المحارق البشرية
((قصص قرآنية))
يقول القرآن الكريم في سوره البروج الآية 4: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾.

إن (الأخدود) هو الشق العظيم في الأرض أو الخندق وهو هنا إشارة إلى تلك الخنادق التي ملأها الكفار ناراً ليردعوا فيها المؤمنين عن إيمانهم والرجوع إلى ما كانوا عليه من كفر وظلال.

ولكن متى حدث هذا؟ في أي قوم؟ وهل حدث مرّة واحدة أم لمرّات؟ في منطقة أم مناطق؟

جرى بين المفسرين والمؤرخين مخاض طويل بخصوص الإجابة عن هذه الأسئلة.

والمشهور: أنّه أشار إلى قصه (ذو نواس) وهو آخر ملوك (حِميَر) في أرض (اليمن) وكان (ذو نواس) قد تهودّ، واجتمعت معه حمير على اليهودية، وسمى نفسه (يوسف) وأقام على ذلك حيناً من الدهر ثم أُخبر أنّ (بنجران) شمال اليمن بقايا قوم على دين النصرانية، وكانوا على دين عيسى عليه السلام وحكم الإنجيل،فحمله أهل دينه على أن يسير إليهم ويحملهم على اليهودية،ويدخلهم فيها، ثم عرض عليهم دين اليهودية والدخول فيها، فأبوا عليه، فجادلهم وحرص الحرص كله، فأبوا عليه وامتنعوا من اليهودية والدخول فيها، واختاروا القتل، فاتخذ لهم أُخدوداً وجمع فيه الحطب،وأشعل فيه النّار فمنهم من أُحرق بالّنار، ومنهم من قُتل بالسيف، ومُثّل بهم كل مثله، فبلغ عدد من قُتل وحُرق بالنّار عشرين ألفا.

وأضاف بعض آخر: إن رجلاً من بني نصارى نجران تمكّن من الهرب، فالتحق بالروم وشكا ما فعل (ذو نواس) إلى قيصر.

فقال قيصر: أنّ أرضكم بعيدة، ولكنّي سأكتب كتاباً إلى ملك الحبشة النصراني وأطلب منه مساعدتكم.

ثمّ كتب رسالته إلى ملك الحبشة، وطلب منه الانتقام لدماء المسيحيين التي أُريقت في نجران، فلماّ قرأ الرسالة تأثر جداً، وعقد العزم على الانتقام لدماء شهداء نجران.

فأرسل كتائبه إلى اليمن والتقت بجيش (ذو نواس)، فهزمته بعد معركة طاحنه، وأصبحت اليمن ولاية من ولايات الحبشة.

وذكر بعض المفسرين: إنّ طول ذلك الخندق كان أربعين ذراعاً وعرضه اثني عشر ذراع، (وكل ذراع يقرب من نصف متر، وأحيانا يقصد به ما يقرب من متر كامل).

وقيل: إنهّا كانت سبعة أخاديد وكل منها بالحجم الذي ذكرناه.

وقد تبين مما ذكرناّه بأن العذاب الإلهي قد أصاب أولئك الذين قاموا بتعذيب المؤمنين،وانتقم منهم في دنياهم جراء ما هدروا من دماء زكيه بريئة، وأنّ عذاب نار الآخرة لفي انتظارهم.

وأوّل من اوجد المحارق البشرية في التاريخ هم اليهود وسرت هذه الممارسة الخبيثة على أيدي الطواغيت والمجرمين، حتى شملت اليهود أنفسهم كما حدث في ألمانيا النازية حينما أُحرق جمع كبير من اليهود في محارق هتلر كما هو مشهور، فذاقوا (عذاب الحريق) في دنياهم قبل آخرتهم.

كما أصاب الخزي والعذاب (ذو نواس اليهودي) وهو مؤسس هذا الأسلوب القذر من الجريمة. والذي ذكرناه هو ما أشتهر بين أرباب التاريخ والتفسير من قصة أصحاب الأخدود.

* المصدر:قصص القرآن / لآية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي.

أصحاب القرية ((قصص قرآنية)) قصّة رسل أنطاكية

أصحاب القرية
((قصص قرآنية))
قصّة رسل أنطاكية

(أنطاكية) واحد من أقدم مدن الشام التي بنيت-على قول البعض-بحدود ثلاثمائة سنة قبل الميلاد. وكانت تعد من أكبر ثلاث مدن روسية في ذلك الزمان من حيث الثروة والعلم والتجارة. 

تبعد (أنطاكية) مائة كيلو متر من مدينة حلب، وستين كيلو متر عن الإسكندرية. 

فتحت من قبل (أبو عبيدة الجراح) في زمن الخليفة الثاني.

أحتلها الفرنسيون بعد الحرب العالمية الأولى، وحينما أراد الفرنسيون ترك الشام ألحقوها بالا راضى التركية خوفا على أهالي أنطاكية من أن يمسهم سوء بعد خروجهم لأنهم نصارى مثلهم.

(أنطاكية) تعتبر بالنسبة للنصارى كالمدينة المنورة بالنسبة للمسلمين، المدينة الثانية في الأهمية بعد بيت المقدس، التي ابتدأ المسيح عليه السلام منها دعوته، ثم هاجر مع من آمن بالمسيح عليه السلام -بولس وبرنابا- إلى أنطاكيا ودعو الناس هناك إلي المسيحية، وبذا انتشرت المسيحية هناك.

أولا: يقول القرآن الكريم في بيان قصة هؤلاء القوم: ﴿وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ﴾ وبعد ذلك العرض الإجمالي العام، ينتقل القرآن إلي تفصيل الأحداث التي جرت فيقول: ﴿إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ﴾. أما من هؤلاء الرسل هناك أخذ ورد بين المفسرين، بعضهم قال: إن أسماء الاثنين (شمعون) و(يوحنا) والثالث (بولس) وبعضهم ذكر أسماء أخرى لهم.

وكذلك هناك أخذ ورد أنهم رسل الله تعالى، أم أنهم رسل المسيح عليه السلام ولا منافاة مع قوله تعالى: ﴿إِذْ أَرْسَلْنَا﴾ اذ أن رسل المسيح أرسله الله تعالى أيضا، مع أن ظاهر القرآن ينسجم معه التفصيل الأول وان كان لا فرق بالنسبة إلي النتيجة التي يريد أن يخلص إليها القرآن الكريم.

الآن ننظر ماذا كان رد فعل هؤلاء القوم الضالين قبال دعوة الرسل، القرآن الكريم يقول: أنهم تعللوا بنفس الأعذار الواهية التي يتعذر بها الكثيرين من الكفار دائما في مواجهة الأنبياء، ﴿قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ﴾.

فإذا كان مقررا إن يأتي رسول من قبل الله تعالى، فيجب أن يكون ملكا مقربا وليس إنسانا مثلنا. هذه هي الذريعة التي تذرعوا بها لتكذيب الرسل وإنكار نزول التشريعات الإلهية، والمحتمل أنهم يعرفون أن جميع الأنبياء على مدى الزمن كانوا من نسل آدم، من جملتهم إبراهيم الخليل عليه السلام، الذي عرف برسالته، ومن المسلم انه كان إنسانا، وناهيك أن منه هل يمكن لغير الإنسان إن يدرك حاجات الإنسان ومشاكله وآلامه.

على كل حال فان هؤلاء الأنبياء لم ييأسوا جراء مخالفة هؤلاء القوم الضالين ولم يضعفوا، وفي جوابهم ﴿قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ﴾ومسؤوليتنا إبلاغ الرسالة الإلهية بشكل واضح وبين فحسب.

﴿وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ﴾

من المسلم به أنهم لم يكتفوا بمجرد الادعاء، أو القسم بأنهم من قبل الله، بل إن مما يستفاد من التعبير (البلاغ المبين) إجمالا إنهم اظهروا دلائل و معاجز تشير إلي صدق ادعائهم وإلا فلا مصداقية (للبلاغ المبين) اذ إن البلاغ المبين يجب أن يكون بطريقة تجعل من اليسر للجميع أن يدركوا مراده، وذلك لا يمكن تحققه إلا من خلال الدلائل والمعجزات الواضحة.

وقد ورد في بعض الروايات أن هؤلاء الرسل كانت لهم القدرة على شفاء بعض المرضى المستعصي علاجهم - بإذن الله- كما كان لعيسى عليه السلام. 

لنرجمنكم:إن الوثنيين لم يسلموا أمام ذالك المنطق الواضح وتلك المعجزات، بل أنهم زادوا في عنفهم للمواجهة، وانتقلوا من مرحلة التكذيب إلي مرحلة التهديد والتعامل الشديد ﴿الُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ﴾.

ويحتمل حدوث بعض الوقائع السلبية لهؤلاء القوم، أو كالإنذارات الإلهية لهم، وكما نقل بعض المفسرين فقد توقف نزول المطر عليهم مدة، ولكنهم لم يعتبروا من ذلك، بل أنهم اعتبروا تلك الحوادث مرتبطة ببعثة هؤلاء الرسل. ولم يكتفوا بذلك، بل أنهم أظهروا سوء نواياهم من خلال التهديد الصريح والعلني وقالوا: ﴿لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.

وهنا رد الرسل بمنطقهم العالي على هذيان هؤلاء: ﴿قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم﴾.

فإذا أصابكم سوء الحظ وحوادث الشؤم، ورحلت بركات الله عنكم، فان سبب ذلك في أعماق أرواحكم، وفي أفكاركم المنحطة وأعمالكم القبيحة المشئومة وليس في دعواتنا، فها أنتم ملأتم دنياكم بعبادة الأصنام وأتباع الهوى والشهوات، وقطعكم عنكم بركات الله سبحانه وتعالى.

وفي الختام قال الرسل لهؤلاء ﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ﴾.

فان مشكلتكم هي الإسراف والتجاوز، فإذا أنكرتم التوحيد وأشركتم فسبب ذلك هو الإسراف وتجاوز الحق، فإذا أصاب مجتمعكم المصير المشئوم فسبب ذلك الإسراف في المعاصي والتلوث بالشهوات، وأخيرا ففي قبال الرغبة في العمل الصالح تهددون الهادفين إلي الخير بالموت، وهذا أيضا بسبب التجاوز والإسراف.

المجاهدون الذين حملوا أرواحهم على الأكف!! 

يشير القرآن إلي جانب آخر من جهاد الرسل الذي وردت الإشارة إليه في هذه القصة. والإشارة تتعلق بالدفاع المدروس للمؤمنين القلائل وبشجاعتهم في قبال الأكثرية الكافرة المشركة.. وكيف وقفوا حتى الرمق الأخير متصدين للدفاع عن الرسل.

﴿وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾.

هذا الرجل الذي يذكر أغلب المفسرين أن اسمه (حبيب النجار) هو من الأشخاص الذين قيض لهم الاستماع إلي هؤلاء الرسل والأيمان وأدركوا بحقانية دعوتهم ودقة تعليماتهم وكان مؤمنا ثابت القدم في إيمانه، وحينما بلغه بأن مركز المدينة مضطرب ويحتمل أن يقوم الناس بقتل هؤلاء الأنبياء أسرع وأوصل نفسه إلى مركز المدينة ودافع عن الحق بما استطاع بل انه لم يدخر وسعا في ذلك.

التعبير بـ(رجل) بصورة النكرة يحتمل انه إشارة إلى انه كان فردا عاديا، ليس له قدرة أو إمكانية متميزة في مجتمع، وسلك طريقه فردا وحيدا. وكيف أنه نفس الوقت دخل المعركة بين الكفر والأيمان مدافعا عن الحق.

التعبير بـ(أقصى المدينة) يدلل على أن دعوة هؤلاء الأنبياء وصلت إلى النقاط البعيدة من المدينة، وأثرت على القلوب المهيأة الأيمان، ناهيك عن أن أطراف المدن عادة تكون مراكز للمستضعفين المستعدين أكثر من غيرهم لقبول الحق والتصديق به، على عكس ساكني مراكز المدن الذين يعيشون حياة مرهفة تجعل من الصعب قبولهم لدعوة الحق. والآن لننظر إلى هذا الرجل المجاهد، بأي منطق وبأي دليل خاطب أهل المدينة.

فقد أشار أولا إلى هذه القضية ﴿اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا﴾ فتلك القضية بحد ذاتها الدليل الأول على صدق هؤلاء الرسل، فهم لا يكسبون من دعوتهم تلك أية منفعة مادية شخصية، ولا يريدون منكم مالا ولا جاها ولا مقاما وحتى أنهم لا يريدون منكم أن تشكرونهم. والخلاصة: لا يريدون منكم أجرا ولا شيء آخر. ثم يضيف: إن هؤلاء الرسل كما يظهر من محتوى دعوتهم وكلامهم إنهم أشخاص مهتدون ﴿وَهُم مُّهْتَدُون﴾.

ثم ينتقل إلي ذكر دليل آخر على التوحيد الذي يعتبر عماد دعوة هؤلاء فيقول: ﴿وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي﴾، فان من هو أهل لأن يعبد هو الخالق والمالك والوهاب وليس الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، الفطرة السليمة تقول: يجب أن تعبدوا الخالق لا تلك المخلوقات التافهة.

وبعد ذلك ينبه إلى إن المرجع والمآل إلي الله سبحانه فيقول ﴿أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ﴾ ثم يقول ذلك المؤمن المجاهد بالتأكيد والتوضيح أكثر: إني حين أعبد هذه الأصنام وأجعلها شريكا الله فاني سأكون في ضلال بعيد ﴿إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ فأي ضلال أوضح من أن يجعل الإنسان العاقل تلك الموجودات الجامدة جنبا إلي جنب خالق السماوات والأرض!! وعندما انتهى هذا المؤمن المجاهد المبارز من استعراض تلك الاستدلالات والتبليغات المؤثرة أعلن لجميع الحاضرين ﴿إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ﴾.

موقف الناس من المؤمن المضحي:

لكن لننظر ماذا كان رد فعل هؤلاء القوم إزاء المؤمن الطاهر القرآن لا يصرح بشيء حول ذلك، ولكن يستفاد من طريقة الآيات التالية بأنهم ثاروا عليه وقتلوه.

نعم فان حديثه المثير والباعث على الحماس والمليء بالاستدلالات القوية الدامغة، والملفتات الخاصة والنافذة إلي القلب، ليس لم يكن لها الأثر الايجابي في تلك القلوب السوداء المليئة بالمكر والغرور فحسب، بل إنها على العكس أثارت فيها الحقد والبغضاء وسعرت فيها نار العداوة، بحيث أنهم نهضوا إلي ذلك الرجل الشجاع وقتلوه بمنتهى القسوة والغلظة. وقيل أنهم رموه بالحجارة، وهو يقول: اللهم أهد قومي، حتى قتلوه. وفي رواية أخرى أنهم وطئوه بأرجلهم حتى مات.

ولقد أوضح القرآن الكريم الحقيقة بعبارة جميلة مختصرة هي ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ﴾ وهذا التعبير ورد في خصوص شهداء طريق الحق في آيات أخرى من القرآن الكريم ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾.

والجدير بالذكر والملاحظة أن هذا التعبير يدلل على أن دخوله الجنة كان مقترنا باستشهاده شهادة هذا الرجل المؤمن، بحيث أن الفاصلة بين الاثنين قليلة إلي درجة أن القرآن المجيد بتعبيره اللطيف ذكر دوله بدلا عن شهادته، فما أقرب طريق الشهداء إلي السعادة الدائمة!! 

على كل حال فان روح ذلك المؤمن الطاهر، عرجت إلي السماء إلي جوار رحمة الله وفي نعيم الجنان، وهناك لم تكن له سوى أمنية واحدة ?قال يا ليت قومي يعلمون يا ليت قومي يعلمون بأي شيء ?بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين. وفي حديث عن الرسول صلى الله عليه واله فيما يخص هذا المؤمن انه نصح لهم في حياته وبعد موته.

وعلى كل حال فقد كان هذا مآل هذا الرجل المؤمن المجاهد الصادق الذي أدى رسالته ولم يقصر في حماية الرسل الإلهيين، وأرتشف في النهاية كأس الشهادة، وقفل راجعا إلي جوار رحمة ربه الكريم.

نهاية عمل أنبياء ثلاثة:

مع أن القرآن الكريم لم يورد شيئا في ما انتهى إليه عمل هؤلاء الثلاثة من الرسل الين بعثوا إلي هؤلاء القوم، لكن جمعا من المفسرين ذكروا أن هؤلاء قتلوا الرسل أيضا إضافة إلي قتلهم ذلك الرجل المؤمن، وفي حال أن البعض الآخر يصرح بان هذا الرجل الصالح شاغل هؤلاء القوم بحديثه وبشهادته لكي يتسنى لهؤلاء الرسل التخلص ممل حيك ضدهم من المؤامرات والانتقال إلي مكان أكثر أمنا.

عاقبة القوم الظالمين رأينا كيف أصر أهالي مدينة أنطاكية على مخالفة الإلهيين والآن لننظر ماذا كانت نتيجة عملهم القرآن الكريم يقول في هذا الخصوص: ﴿وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِّنَ السَّمَاء وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ﴾ فلسنا بحاجة إلي تلك الأمور وأساسا فأنه ليس من سنتنا لأهلاك قوم ظالمين أن نستخدم جنود من السماء لان إشارة واحدة كانت كافية للقضاء عليهم جميعا وإرسالهم إلي ديار العدم والفناء، إشارة واحدة كانت كافية لتبديل عوامل حياتهم ومعيشتهم إلي عوامل موت وفناء وفي لحظة خاطفة تقلب حياتهم عاليها سافلها.

ثم يضيف تعالى ﴿إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ﴾.

هل أن تلك الصيحة كانت صدى صاعقة نزلت من الغيوم على الأرض وهزت كل شيء ودمرت كل عمران موجود وجعلت القوم من شدة الخوف والوحشة يستسلمون للموت أو إنها كانت صيحة ناتجة عن زلزلة خرجت من قلب الأرض فضجت في الفضاء بحيث أن موج انفجارها اهلك الجميع.

أيا كانت فإنها لم تكن سوى صيحة لم تتجاوز اللحظة الخاطفة في وقوعها، صيحة أسكتت جميع الصيحات، هزة أوقفت كل شيء عن التحرك وهكذا قدرة الله سبحانه وتعالى، وهكذا هو مصير قوم ضالين لا ينفع فيهم.

قصة رسل أنطاكية في تفسير مجمع البيان:

(الطبرسي) أعلى الله مقامه في تفسير مجمع البيان يقول: قالوا بعث عيسى رسولين من الحواريين إلى مدينة أنطاكية، فلما قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له وهو (حبيب) صاحب (يس) فسلما عليه.
فقال الشيخ لهما: من أنتما ؟
قالا: رسولا عيسى، ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن.
فقال: أمعكما آية.
قالا: نعم، نحن نشفي المريض ونبرى الأكمه والأبرص بإذن اله.
فقال الشيخ: إن عندي ابنا مريضا صاحب فراش منذ سنين.
قالا: فانطلق بنا إلي منزلك نتطلع حاله، فذهب بهما فمسحا أنبه فقام في الوقت بإذن الله صحيحا، ففشا الخبر في المدينة وشفى الله على يديهما كثيرا من المرضى.
وكان لهم ملك يعبد الأصنام فانتهى الخبر إليه، فدعاهما فقال لهما: من أنتما قالا: رسولا عيسى، جئنا ندعوك من عبادة مالا يسمع ولا يبصر إلي عبادة من يسمع ويبصر.
فقال الملك: ولنا اله سوى آلهتنا.
قالا: نعم، من أوجدك وآلهتك.
قال: قوما حتى أنظر في أمركما، فأخذهما الناس في السوق وضربوهما.

وروي إن عيسى عليه السلام بعث هذين الرسولين إلى أنطاكية فأتيا ولم يصلا إلي ملكها وطالت مدة مقامهما فخرج الملك ذات يوم فكبرا وذكرا الله فغضب الملك وأمر بحبسهما، وجلد كل واحد منهما مائة جلدة، فلما كذب الرسولان وضربا، بعث عيسى (شمعون صفا) رأس الحواريين على أثرهما لينصرهما، فدخل شمعون البلدة متنكرا فجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به فرفعوا خبره إلي الملك فدعاه ورضي عشرته وأنس به وأكرمه، ثم قال له ذات يوم: أيهما ملك بلغني أنك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعواك إلي غير دينك فهل سمعت قولهما. قال الملك حال الغضب بيني وبين ذلك. قال: فان رأى الملك دعاهما حتى نتطلع ما عندهما فدعاهما الملك.
فقال: لهما شمعون: من أرسلكما إلي هاهنا.
قالا: الله الذي خلق كل شيء لا شريك له.
قال: وما آيتكما.
قالا: ما تتمناه.

فأمر الملك أن يأتوا بغلام مطموس العينين وموضع عينه كالجبهة.فما زال يدعوان حتى انشق موضع البصر بندقتين من الطين فوضعاها في حدقتيه فصارا مقلتين يبصر بهما، فتعجب الملك.
فقال شمعون للملك: أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع صنيعا مثل هذا فيكون لك ولإلهك شرفا فقال الملك: ليس لي عنك سر، إن إلهنا الذي نعبده لا يضر ولا ينفع.
ثم قال الملك للرسولين: إن قدر إلهكما على إحياء ميت آمنا به وبكما.
قالا: إلهنا قادر على كل شيء.
فقال الملك: إن هاهنا ميتا مات من سبعة أيام لم ندفنه حتى يرجع أبوه وكان غائبا فجاءوا بالميت وقد تغير وأروح، فجعلا يدعوان ربهما علانية، وجعل شمعون يدعو ربه سرا، فقام الميت وقال لهم: إني قد من منذ سبعة أيام وأدخلت في سبعة أودية من النار وأنا أحذركم مما أنتم فيه، فآمنوا بالله فتعجب الملك.
فلما علم شمعون إن قوله أثر في الملك، دعاه إلي الله فآمن وآمن من أهل مملكته قوم وكفر آخرون.

ونقل (العياشي) في تفسيره مثل هذه الرواية عن الأمام الباقر والصادق عليهما السلام مع بعض التفاوت... ولكن بمطالعة الآيات السابقة، يبدو من المستبعد أن أهل تلك المدينة كانوا قد آمنوا، لان القرآن الكريم يقول ﴿إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ﴾. ويمكن أن يكون هناك أشباه في الرواية من جهة الراوي.

* قصص الأنبياء /اية الله مكارم الشيرازي.